بقلم: د. محمد عثمان
في السنوات الأخيرة، أصبح واضحًا أن الدور التقليدي للجهات الحكومية، كجهات تقدم خدمات مجانية أو مدعومة بالكامل، لم يعد مستدامًا في ظل التحديات الاقتصادية المتصاعدة، والضغوط المستمرة على الميزانيات العامة، وتزايد تطلعات المواطنين والمؤسسات في آنٍ واحد. هذا التحول في الواقع أفرز ضرورة ملحة لإعادة تعريف العلاقة بين الحكومة ومصادر تمويلها، ليس من خلال فرض أعباء جديدة، بل عبر منهجية ذكية لبناء منظومة إيرادات مستدامة قائمة على الكفاءة، الابتكار، والتميز التشغيلي.
إن تنويع مصادر الدخل لم يعد رفاهية بالنسبة للقطاع الحكومي، بل تحول إلى أولوية استراتيجية في ظل التوجهات الوطنية نحو “حكومة فعالة”، و”إدارة ذكية للموارد”، و”نموذج تشغيلي قائم على القيمة”. هنا يظهر دور الاستشارات المتخصصة كعامل تحويلي جوهري، لا يقتصر فقط على تقديم النصائح أو النماذج الجاهزة، بل يتعدى ذلك إلى تمكين الجهات الحكومية من اكتشاف قدراتها الاقتصادية الكامنة، وتحويلها إلى روافد مالية منظمة ومؤسسية.
التميز المؤسسي هو الأساس الذي تُبنى عليه أي منظومة مالية ناجحة. لا يمكن الحديث عن مصادر دخل مستدامة دون وجود بنية مؤسسية رشيقة، وعمليات مؤتمتة، وخدمات قابلة للتطوير والتسعير. من هنا، فإن مهمة بيوت الخبرة لا تقتصر على تقديم حلول فنية، بل على غرس ثقافة اقتصادية داخل المؤسسات الحكومية، تبدأ من الفهم، وتمتد إلى التفكير التجاري، وتنتهي بالتمكين المالي الذاتي.
وفي قلب هذه المعادلة، نجد أن دور الاستشارات الناجحة يبدأ بتحليل شامل للوضع الراهن داخل الجهة الحكومية، لا من منظور تقني فقط، بل من زاوية استراتيجية تسأل: ما هي الأصول غير المستغلة؟ ما هي الخدمات التي يمكن تطويرها وتسويقها؟ ما هي البيانات التي يمكن أن تُستخدم لتقديم خدمات مدفوعة موجهة؟ ما هي القدرات البشرية التي يمكن إعادة تأطيرها كمصدر معرفة مدرّ للإيرادات؟ هذا التحليل العميق هو ما يمكّن الجهة من الانتقال من مجرد متلقٍ للتمويل إلى جهة تبتكر نماذج دخل ذكية ومتكاملة.
لكن التحول لا يتم بقرار، بل بمنهجية. وهنا تتدخل أدوات التميز المؤسسي كنماذج EFQM، ومنهجيات Lean، ومفاهيم التفكير التصميمي، لخلق بيئة تشغّل الإيرادات داخل المؤسسة دون أن تتخلى عن دورها الأساسي كجهة تخدم المواطن. الاستشارات الناجحة لا تضع المؤسسة في موقع تناقض بين رسالتها المجتمعية وتحقيق العائد، بل تساعدها على بناء معادلة توازن تضمن الاستدامة، دون التفريط في العدالة أو الكفاءة.
وتجربة الدولة المصرية في هذا المجال باتت نموذجًا يُحتذى. مبادرات مثل جائزة مصر للتميز الحكومي، والتحول الرقمي الشامل، وإنشاء منصات الخدمات الذكية، لم تأتِ كمسارات تحسين فقط، بل كأرضية تؤهل الجهات لأن تخلق مصادر دخل جديدة تعتمد على تقديم خدمات محسّنة، وتطبيق رسوم عادلة، وتوسيع قاعدة المستفيدين من خلال الابتكار. في هذا الإطار، تصبح الاستشارة ليست أداة تصحيح، بل شريك استراتيجي في بناء الذراع المالي للمؤسسة.
العديد من الجهات الحكومية بدأت في اتخاذ خطوات عملية لتطبيق هذه الرؤية، مثل إطلاق خدمات متميزة برسوم تنافسية، تأجير الأصول غير المستغلة بطريقة ذكية، تطوير منتجات معرفية (كالدورات أو التحاليل أو قواعد البيانات)، والمشاركة في شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص. وكل هذه التجارب تُظهر أن الحكومة يمكن أن تكون جهة مولدة للقيمة، لا مستهلكة فقط للتمويل، بشرط أن تملك الرؤية، الأدوات، والدعم الاستشاري المناسب.
التحول من مجرد “الدعم” إلى “التمكين” لا يعني فقط تمويلًا ذاتيًا، بل يعني نضجًا مؤسسيًا حقيقيًا. الجهة الحكومية المُمكّنة هي التي تعرف من أين تأتي مواردها، وكيف تديرها، وكيف تخلق خدمات ذات قيمة مضافة، وكيف تُقنع المستفيد بالدفع مقابل خدمة محسّنة. إنها جهة تفكر بعقلية النمو، وتنفذ بمنهجية التميز، وتستثمر في أدواتها لاستهلاك أقل، وإنتاج أكثر، وفاعلية أكبر.
وفي هذا الإطار، يصبح دور بيوت الخبرة هو بناء الجسور بين الرؤية والواقع، بين التطلعات والنماذج التشغيلية، بين الاستراتيجية والتطبيق. ليس المطلوب حلولًا سريعة، بل شراكة طويلة الأمد تبني قدرات داخلية، وتُحدث تغييرًا ثقافيًا حقيقيًا، وتجعل التفكير المالي عنصرًا أصيلًا في التخطيط الحكومي.
إننا أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف دور القطاع الحكومي في الاقتصاد الوطني، ليس فقط كمنظم أو مشرف، بل كشريك فاعل في خلق القيمة، وبناء موارد، وتحقيق التوازن المالي. ولن يحدث هذا إلا إذا انتقلنا من الدعم إلى التمكين، ومن المساعدات إلى بناء النماذج، ومن التفكير القصير إلى منهجيات ذات أثر مستدام. وهنا، تكون الاستشارات الجادة والمبنية على فهم محلي وسياق عالمي، هي المفتاح الحقيقي للنهضة.
